January 3, 2014, 11:06 pm
بدأ الألمُ يعتصر أحشاءه؛ ألم الجوع والعطش، ليس للطعام فحسب، بل لكل شئٍ جميل فقده في غفلة من الزمن. لا مكان يفرُّ إليه غير هذه البقعة المنسيّة من بيت هدَّهُ الانفجار قبل أسابيع عديدة. لازالتْ بعضُ الأسمالِ تغطي جسدَه النحيل والتي لا تحميه حتى من لسعاتِ البردِ الخفيفة.
ما يشدّه للمكوثِ في هذا الطلّ والتشبثِ بجدرانه المهترئة هو أختهُ الصغرى، وهي إرثه الوحيد من والديه، والتي لاتنفكُّ تسأله عما حلّ بهما، وهو لايجدُ جواباً أو حجةً لإقناعها.
إنَّ جُلَّ ما يداعب ذاكرته هي غفوتُه الأخيرة والآمنة في حضنِ والدِه الحبيب رغم نداءاتِ أمّهِ بالذهاب للنوم في فراشه الوثير، فقد كبُرَ على النوم في حضنِ والده وهو ابن الثامنة، هذا ما كانت تقوله أمُه على الدوام. هاتفٌ مجهولٌ من الأعماق ألحّ عليه باحتضانِ أبيه واستنشاقِ عطرهِ في تلك الليلةِ الباردة. لم يكن يعلمُ بأنَّ هذه الغفوةَ، في ذلك الحضنِ الدافئ، هي الأخيرة وللأبد. نامَ... "ليتني لم أفعل" (يفكّر في سرّه، ويشرد)، فلو لم ينم لبقيت الأمورُ على مايرام. بدأ الشعورُ بالذنبِ يشاكسُ مخيلتَه الصغيرةَ ويزيدها تعكّراً. فجأة أفاقَ من خياله المتعَب على صوت أخته وهي تشكو من الجوع. لم تكن قد أفرغتْ في ذلك الجوفِ الخاوي غير قطعة من رغيف بائت كان قد أعطاها إياه أحدُ الصِبية المشردين من الحي المجاور مساءَ أمس، وكان قد سرقَه من بيتٍ في أحدِ الأزقةِ البعيدة.
بدأ نحيبُها يعلو، فالجوعُ ذئبٌ يفترسُ الأشلاءَ بعد رحلةِ عناءٍ طويلة. صادر الألمُ ملامحَ وجهِها البرئ, واعتلته نظرةُ الخوف والذهول. خفتَ صوتها بعد أن هدّهُ النشيج لدقائق، وابتدأتْ أجفانُها بالانطباق. خامرَهُ شعورٌ بالراحة وهو ينظرُ إليها تنام، فقد تَسنح له فرصة التجوالِ السريعِ بين الخرائبِ ليسعفها ونفسه بأي شئ يصلحُ للبلع. خطى باتجاه الشارع، وإذا بالأصوات القويةِ والمخيفةِ تعود للحياة؛ إنها تشبه تلك التي أخذتْ منه والديه. عاد أدراجه وقد أوشك قلبُه أن يقفزَ من صدرهِ الصغير. التصق بجدارِ المدخل، ارتجفت أوصالُه، همهم بصوت متقطع، بكى ثم غطى عينيه المرعوبتين بكفّيه. بدأ بالصراخ، شعر براحةٍ مؤقتة، واستغربَ كيف لم توقظ هذه الأصواتُ أختَه من نومها!
هدأتْ الأصواتُ المخيفة، فتذكرَ جوعَه وأختَه الصغيرة. عاود المحاولة لاستقصاء ما يمكن أن يكون في الخارج. رأى على الرصيفِ في ناصية الشارعِ الذي يطلّ عليه بيتهم، رجلاً طويلاً، ملثَّمَ الوجه يحمل سلاحاً كبيراً على كتفه، وبكفيه يرقد رغيف، يبدو أنه محشو بشئ. نظر للرجل وتوسل إليه (في ذهنه) أنْ يضعه جانباً كما فعل آخرون، فيهرعُ هو وأصدقاؤه لتناولِه؛ لكن الرجل التهم الرغيف حتى آخر قضمة منه. طرق اليأسُ بابَ أحاسيسِه ثانيةً، بعدما أزاحهُ الأملُ لثوانٍ عديدة، وفكّرَ في طريقة ليحصل بها على الطعام. بدأ يمشي ببطء ووجل شديدين، لكنه سرعان ما حثَّ الخطى، وبدأ بالركض بين الطرقات، يدور يمينا وشمالا ثم يعود ليكرر ذلك أملاً بلقاء من تحتلّ الرحمةُ قلبه، لكنْ هيهات! أدركه اليأسُ، وقرّر أن يعود ليتفقد أخته النائمة في فراشها الملئ بالأقذار. كانت الشوارعُ والطرقاتُ خالية إلا من بعض الرجال الملثمينَ المدججينَ بالسلاح. عرفَ منهم ابنَ جارهم العجوز، والذي لم يكتف بضرب والده العاجز فحسب، بل وطرده من البيت ليلفظ أنفاسه على رصيف أحد الشوارع. وصل إلى أطلاله، تردد في الدخول، انتظر أخته لتسأله عن الطعام، لكن الصوت خانه، وأخلَّ به السؤالُ. "أتُراها تحلم بوجبة طعام دسمة أم أنها هادئة بسبب الرعب؟"
فوجئ بمجموعة رجال يقتحمون المكان. اندفعوا كالعاصفة باتجاه الشبابيك المهشمة. صوّبوا فوهات أسلحتهم باتجاه الشارع محتمين بالجدران. خشي أن يتهاوى أحدُهم على جسد أُخته النائمة أو يتعثر بها، واستغرب مواصلتها النوم رغم كل ما حدث ويحدث. ركلهُ أحدُهم، وصرخ بوجهه بنبرة حادّة بينما هو مذهول لا يقوى على الحراك. "أين يمكنني الذهاب؟" البلدة ليس فيها إلاّ تلك الأصوات المرعبة، وعويلٌ من هنا أو هناك لأناس يبكون أو يولولون أو يتألمون. هاله منظر التراب والدخان اللذين يتطايران من أجسادهم النتنة. اشتدّ ذلك الصوت وازداد اقتراباً ورعباً. سنواته الثمان لم تهبه قدرة وافية على الاستنتاج؛ لم يفهمْ أن الصوتَ قادمٌ بصحبة ملك الموت. هرول باتجاه أخته الراقدة، دثَّرها جيداً وأحسَّ ببرودة جسمها الصغير. ضمّها إليه بحنانِ الأخِ الكبير فلمْ تستجب. استلقى إلى جانبها. همس بكلمات أمه الدافئة في أذنها، لكن الصغيرة لم تحرِّك ساكناً.
احتدم الصراع بين الرجال الملثمين والأصوات في الخارج. بدأت قطع الجدران المحطمة تتطاير وتتناثر في المكان بسرعة وقوة حتى استقر أحدها على جسديهما الطريين... أحسَّ بخفة جسده الصغير، وغادره الخوف والجوع والألم، نادته أمه وهي تبسط ذراعيها لاحتضانه، ورأى أباه جالساً على أريكة من المخمل الأحمر، يشير إليه ليغفو في حضنه، وأخته تلبس ثوبها الجديد الذي اشترته أمه لها هدية للعيد. سأل أمه عن الأصوات المرعبة في الخارج، فطمأنته بأنهم هنا في أمان، لايحضرون عرسَ الشيطان!
الكاتب: سوزان سامي
|