لم يحدث في التأريخ الحديث قط ، أن تعامت الطبقة الحاكمة في بلد ما عن رؤية الحقائق الصارخة على ارض الواقع ، مثلما يحدث في عراق اليوم ، فهي تتحدث عن دولة موحدة اسمها العراق ، في حين أن هذه الدولة لم يعد لها وجود على الأرض ، بل توجد فقط على خرائط سايكس – بيكو ، التي عفا عليها الزمن . فالعراق يتألف اليوم من ثلاث دول ، تربطها خيوط واهية وعلاقات هشة . ولا يقتصر الأمر على ساسة العراق ، بل ان بعض الدول الكبرى ، تتظاهر بالحرص على وحدة العراق وتتمسك بهذا الوهم ، الذي لا تؤمن به ،من اجل تشجيع بغداد على اتباع سياسة جديدة قائمة على المصالحة الوطنية الحقيقية والمساواة في الحقوق والواجبات وعدم تهميش أي مكون من مكونات العراق. ولكن لا يبدو أن تلك الدول ستنجح في مسعاها ، لأن العقلية التي قادت العراق الى ما آل اليه اليوم ، لم تتغير كثيراً ، أو لنقل أنها تغيرت شكلياً فقط . والوقائع اليومية تثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشك .
واذا كانت هذه الدول تنطلق من مصالحها الحيوية ، فأن الطبقة الحاكمة في بغداد ، حريصة على مصالحها الخاصة ، وليس مصالح الطائفة التي تدعي تمثيلها ، فالأستخدام السياسي للطائفية ورفع شعاراتها ،يهدف الى صرف انظار الجماهير المسحوقة عن واقعها الأليم ونسيان بؤسها ومعاناتها وحرمانها من ابسط متطلبات الحياة .، بمعنى آخر أصبحت الطائفية أفيونا لتخدير المخدوعين بها ، في حين تستأثر فئة صغيرة بالسلطة وثروات البلد .
ولكي لا يتهمنا أحد بالمغالاة أو الأنحياز ، لندع الساسة والخبراء الأجانب ، يصفون لنا حالة بلد يتفكك أمام أنظار العالم .
في عام 2006 طرح الباحث السياسي الأميركي ليزلي غيلب مشروع الفيدرالية في العراق ، ومن ثم انضم اليه السناتور جو بايدن ( نائب الرئيس الأميركي حالياً ) ، يتم بموجبه نقل السلطات الأساسية الى الحكومات الأقليمية ، على أن تتولى الحكومة الأتحادية ، ثلاثة اختصاصات محددة ، وهي حماية الحدود الخارجية ، وتوزيع عائدات النفط ، والشؤون الخارجية . ورداً على ملاحظة منتقدي المشروع ،ان الفيدرالية من شأنه أن يؤدي الى التطهير العرقي ، اشار غيلب بحق الى أن التطهير العرقي في العراق قد أصبح بحكم الأمر الواقع ، ويجري هذا التطهير ، بأكثر الطرق وحشيةً وقساوةً .
وفي خريف عام 2014 عاد ليزلي غيلب ليؤكد : " ان العراق قد تفكك فعلاً . الكرد تحرروا الى حد كبير ، رغم اعتراضات بغداد ، والسنة يؤيدون ( داعش ) الى هذا الحد و ذاك ، أو ببساطة يتجاهلون بغداد ، والشيعة يسيطرون على بغداد والمنطقة الجنوبية ، ولم يعد للعراق الموحد وجود . انهم يتظاهرون بأن في بغداد حكومة مركزية ، رغم أنها حكومة مركزية بالأسم فقط ، وليس لها سلطة حقيقية على وسط وشمال البلاد . جروح السنوات الأخيرة والكراهية المزمنة لا يمكن تجاوزها بسهولة . كما تعلمون، فأن العراق لم يكن قادراً على البقاء ضمن حدودها الحالية الا بأستخدام القوة المفرطة في شتى العهود من الأتراك الى الأنجليز ، ثم في عهد صدام . اما الآن فلا توجد قوة يمكنها ابقاء العراق دولة موحدة . "
أما البروفيسور غاريث ستانفيلد، المختص بسياسات الشرق الأوسط في جامعة إكستر ، فقد أشار في مقال له تحت عنوان " العراق يتفكك " الى أن البديل عن تفكك العراق على أسس عرقية ودينية هو حرب أهلية كارثية تهدد بأنتقال لهيبها الى المنطقة بأسرها . ويرى أن الدولة الأسلامية التي تتخذ من مدينة الرقة عاصمة لها ، تسيطر على مناطق شاسعة في العراق ، وسيسود الشيعة في بغداد والجنوب بدعم من ايران ، ولا يستبعد ستانفيلد ظهور دولة كردستان . ويضيف قائلاً : " في ضؤ هذه الدينامية القوية ، فأن الدعوة الصادرة عن الولايات المتحدة وبريطانيا ، الى الوحدة الوطنية في العراق ، معزولة عن الواقع تماماً ، لأن أية محاولة للحفاظ على وحدة العراق ستؤدي إلى خلق فرانكشتاين- مسخ يتسم بطبيعة لا يمكن التنبؤ بها .
ويؤكد ان التفكك يجري اما انظارنا ، وحيث تجري عدة عمليات طاردة لبعضها البعض ، وقسمت البلاد الى ثلاث مناطق : الدولة الأسلامية ، كردستان ، والمعقل الشيعي في بغداد والجنوب . وفي هذا الصدد، ينبغي الاعتراف بالواقع وليس التظاهر بأن العراق الموحد لا يزال موجودا لحد الآن .
ان فكرة وجود ثلاث دول مستقلة ، هي معقدة للغاية ، ولكن فكرة دمجها معاً مرة أخرى ، هي أسوأ بكثير .
ووفقا لديفيد بولوك، المستشار السياسي السابق لوزارة الخارجية، يصبح الاستقلال الكردي واقعا للمرة الأولى ومع ذلك، يعتقدبولوك ، ان الكرد لن يصروا على الاستقلال التام، لأنهم يعلمون ان هذه الخطوة ستجابه بأعتراض شديد من قبل تركيا وايران . وعلاوة على ذلك فأن اقتصادهم يعتمد على حصتهم من عائدات النفط ، التي تشرف حكومة بغداد على توزيعها . ومع ذلك،فأن التهديد الذي تشكله " الدولة الأسلامية " قوية الى درجة أنه يلقي بظلاله على جميع المشاكل الأخرى في العراق.
وقال وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند في أعقاب زيارة له الى العراق أواخر اكتوبر 2014
ان الحرب ضد داعش ، هي بالفعل فرصة العراق الأخيرة كدولة قومية
أن التطورات السياسية والأمنية في العراق والمنطقة والحرب ضد داعش ، وما رافقها من تغيير ديموغرافي وانتهاك لحقوق الأنسان في المناطق المحررة من محافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار وأعمال القتل على الهوية في بغداد ، قد خلقت واقعاً جديداً في العراق وأدت الى تعميق الشرخ المجتمعي ، ولم يعد النظام الفيدرالي ( حتى في حالة تطبيقه فعلياً أي تأسيس أقاليم جديدة ، وتوزيع الصلاحيات ، كافياً لتعافي العراق من أزماته واعادة الثقة المتبادلة بين مكوناته .
أن الحل الوحيد لأزمات العراق – بعد تطهيره من داعش – هو التخلي عن سياسة هيمنة مكون معين على السلطة وعلى مقدرات البلاد واقرار النظام الكونفدرالي بكل جد وأمانة واخلاص ، بما يتوافق مع الشرعية الدولية و حق تقرير المصير للشعوب .
والمفرقة الكبرى هنا ، هي أن الكثير من ساسة العراق ومثقفيه ، يلعنون أتفاقية سايكس – بيكو الأستعمارية ، وفي الوقت ذاته يتمسكون بالحدود ، التي رسمت للعراق تنفيذاً لتلك الأتفاقية .
ومن حقنا أن نتساءل : لماذا لا يبدو وجود أكثر من عشرين دولة عربية سنية مستقلة أمراً غريباً ، وهي لا تختلف عن بعضها البعض ، لا في القومية ، ولا في الدين ، ولا في المذهب ، في حين لا يمكن لهؤلاء ، تصوّر وجود ثلاث دول مستقلة مختلفة القومية والدين والمذهب ، ولو ضمن اتحاد كونفيدرالي ؟
قال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ، في الكلمة التي ألقاها في جامعة الدفاع الوطني في العاصمة واشنطن يوم التاسع من نيسان 2015 : " ان العراق بحاجة الى أكثر بكثير من النظام الفدرالي ( الحالي ) ، ولم تكن هذه العبارة زلة لسان ، بل تعبّرعن السياسة الرسمية لواشنطن التي ( عجنت وخبزت العراق على مدى اثني عشر عاماً ) .
ولكن لا يبدو في الأفق ما يشير الى أن ساسة بغداد قد استخلصوا الدروس والعبر من تجارب السنوات الأخيرة ، فهم ماضون في تضييع الفرصة الأخيرة لأنقاذ العراق .