لا يخفى على الجميعِ أن وضعَ العراقِ الإنساني والسياسي والاقتصادي والحضاري وحتى الخُلُقيّ منهارٌ تمامًا إذا أردنا أن نتحدث عن وضعه الإنساني فلا بد أن تخنقنا العبرة فلقد أكل شعبه طعامًا من المزابل يستنكفُ أتفه حيوانٌ أن يأكله ولقد عاشَ أطفاله ونساؤه وشيوخه في مخيمات لن يقبل أتفه ابن من أبناء المسؤولينَ العيش فيها ولو لبضعِ ساعاتٍ. أما عن وضعه السياسي فلا ندري ماذا نطلقُ عليه هل هو مضحكٌ أم مبكيٌ؟ فلا يمرُّ يومٌ إلا ونرى من على شاشاتِ التلفزةِ كيف أن ساسته مختلفونَ دائمًا متناحرونَ دوماً هذا يلقي اللومَ على ذاك وذاك يلقي اللومَ على هذا. ما أتفقوا يومًا من الأيام ولا نعرفُ لماذا هم مختلفون؟! مستقبلُ العراقِ بين التلاشي والضياع؛ فوضى عارمةٌ تعمُّ البلاد برمته انهيار تام يعمُّ كلَّ المؤسساتِ بشكلٍ عجيبٍ ومخيفٍ، الوساطات والمحسوبية ودفع الرُشى مقابل قضاءِ الحاجاتِ لا يخفى حتى على القاصي والداني، تسليمُ زمام الأمورِ لأناسٍ عاجزةٍ أن تديرَ مسؤوليةَ أصغر عائلةٍ من العائلاتِ. شبابنا بدلاً من أن يكونوا الثمارَ الناضجَ المدخرَ في قابلِ الأيامِ أصبحوا متسكعينَ في الطرقاتِ منهم المخمور ومنهم المقهور ومنهم الشريد ومنهم الطريد. ورجالنا الذين من المفترض أنهم القدوة المقتدى بها أصبح الرجلُ منهم عاجزًا أن يديرَ حتى نفسه إلى درجة لا يعرف مَنْ مِنْ أفراد عائلته في خارجِ المنزلِ ومَنْ منهم في خارجهِ، بحرقةٍ أقولها: بعد أن كان هذا البلد العريق بالسلالاتِ المزدهرِ بالحضاراتِ المليءِ والمزدحمِ بالعلمِ والعلماءِ أصبح لا شيءٍ من كل هذا. الأخلاق في غرفة الإنعاش تحتضر في أنفاسها الأخيرة، والمبادئ والإخلاص والنزاهة (إكسباير) غير صالحاتٍ للاستخدام. أما عن الثقافة والعلم فقد طلبا لجوءًا من بلدٍ لا مكانٍ ولا أمانٍ للعالمِ أو للمتعلمِ فيه. ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ من المخجلِ والعارِ أقولها لكم بصراحةٍ أن أهل العراقِ هم المتآمرونَ على العراقِ. نعم أقولها إن أهله هم المتآمرونَ والمتخاذلونَ ليلًا ونهارًا؛ سرًا وجهارًا. العراق لم يعد بالنسبةِ للعراقيينِ أكثر من عجلٍ سمينٍ مذبوحٍ وملقى على الأرضِ والقصابونَ يحيطونه من كل صوبٍ وحدبٍ، من لا يملكُ من القصابينَ سكينة حادة في يده عليه أن يرجعَ بعيدًا عن العجلِ وإلا سيكون ذبيحةً حاله حال العجلِ. معظم المسؤولينَ إذا لم يكونوا جميعهم يتنصلونَ من مسؤوليةِ هذا الوضع الوحشي؛ ومن هذه الشرذمة التي تعصف بالبلد؛ ريحًا صرصرًا عاتيةً وبنفس الوقتِ يلقونَ اللومَ ويرمونَ عاتقَ المسؤوليةِ على رئيسِ السلطةِ التنفيذيةِ ويؤمنونَ إيمانًا قاطعًا بأنهم أبرياء وأنهم ضحية مثلما هم الشعب ضحية. لا أنتم الجناةُ الطغاةُ أنتم الذين عثتم فسادًا ودمارًا وتخبطًا وعشوائيةً. نعم أنتم والشعب الذي أوصلكم لكرسي المسؤولية. هذه النكسةُ الوخيمةُ وهذا الوضعُ الذي أبسط ما يقالُ عنه بأنه وضع مأساوي مميت. مرارًا وتكرارًا نطالبُ رئيسَ الوزراءِ بالنجاحِ والازدهارِ والتغييرِ نحو الأفضلِ وكأنه ملكٌ مرسلٌ من السماءِ أو نبيٌ موحى إليه في جيبه مفتاح البشرى! أسأل سؤالاً ربما لم يسألْ من قبل: كيف ينجحُ دولة الرئيس وأنتم رجاله؟! كيف ينجحُ وأنتم تساومونه على المناصبِ والوظائفِ والمقاولاتِ والعقاراتِ قبل التصويتِ عليه؟! كيف ينجحُ وأنتم تفرضونَ عليه وزراءه ومدراءه ومستشاريه؟! تفرضون عليه حتى حمايته الشخصية، مع من يلتقي تفرضونها عليه، إلى أي دولةٍ يسافرُ وإلى أي مؤتمرٍ يحضرُ. هل يستطيعُ أن يعزلَ وزيراً فاسدًا أو أن يحاسبَ وكيلاً مرتشيًا أو أن يحيلَ مديراً مقصرًا على التقاعد؛ في ظل هيمنتكم وتسلط أحزابِكم على مؤسساتِ الدولةِ برمتها؟! وبدلاً من أن تكونوا العواملَ المساعدةَ لنجاحِهِ أصبحتم الشوكَ المزروعَ في طريقِهِ! كيف ينجحُ تلميذُ المدرسةٍ وكتبه ممزقة إربًا إربًا؟! كيف يغردُ العصفورُ والغربان تملأ السماء نعيقًا؟! وكيف يستطيعُ الجنديُ أن يحمي وطنه وبندقيته خالية من الرصاصِ؟! مع وجود هذا الوضع المنفلت بشتى أنواعه ووجود هذه الفوضى التي لم تحدثْ في العراقِ منذ تأسيسِ الدولةِ العراقيةِ؛ لا مكانَ للنجاحِ في هذه الأرضِ المليئةِ بالغيلانِ والوحوشِ والمعبئة بمستنقعاتٍ من الحياتِ والعقاربِ المسمومةِ ومن يطالبُ بالنجاحِ ويدعو إليه فإنه يأتي بالأمرِ العجاب كالرجلِ الذي يحاولُ أن يوقدَ نارًا في حطبٍ ملقاةٍ في بركةِ ماءٍ! كلّ من يسعى إلى إنجاح مؤسسةٍ من المؤسساتِ أو وزارةٍ من الوزاراتِ أو مديريةٍ من المديرياتِ أو حتى مدرسةٍ من المدارسِ أو مسجدٍ أو منظمةٍ فإما أن يعزلَ أو أن يسجنَ هذا إذا لم يُقتَلْ أو لم يمسه عذاب أليم! إذا أردتَ أن تكون من أهل النهى والعقد وتشرب من الكأسِ فعليكَ أن تتخلى عن وطنيتكَ قبل كلِّ شيءٍ وبعدها تتخلى عن خلقكَ ونزاهتكَ ومبادئكَ وإخلاصكَ وتعلنها أمام الملأ إني معكم إني من الفاسدينَ المفسدينَ. وما زال البعض يعلقُ على شماعةِ تفاءلوا بالخيرِ تجدوه ويريدونَ منا أن نصدقَ بهذه التفاهاتِ الخزعبلاتِ بأننا عندما نتفاءل بالخيرِ سنجده حتى وإن كان مفتاح الخير بيد فراعنة الشرِ والطغيانِ كالطفلِ الذي يصدقُ بقصةِ السعلوةِ التي تحكيها له جدته فينامُ خوفًا لا نعاسًا. للأسف وبمرارةٍ أقولها أنه لا يزال هناك عقول تعتقدُ بل تؤمن أن الحال قد يصلح بمقالةِ كاتبٍ أو قصيدةِ شاعرٍ أو فكرةِ مصلحٍ أو رأي فيلسوفٍ. بالطبعِ لا يصلح الحال بهذه المثالياتِ الرعناء ولا بالشعاراتِ المزيفةِ، إذا أردتم النجاحَ والتغييرَ نحو مستقبلِ عراقٍ زاهرٍ بالخيرِ والعطاءِ؛ اِئْتُوا بشعبٍ يحترمُ القانونَ حبًا لا خوفًا، اِئْتُوا بشعبٍ يقدسُ القضاءَ كتقديسِهِ للمسجدٍ والكنيسةٍ، اِئْتُوا بشعبٍ يؤمنُ إيمانًا مطلقًا بأن نزاهة النفسِ والإخلاصِ في العلمِ والعملِ وحبّ الوطنِ والمساواة بين مواطنيه؛ الغفير حاله حال الوزير لا فرق بينهما إلا في الإخلاصِ والعطاءِ. اِئْتُوا بشعبٍ يؤمنُ بأن الدولة لا تُبنى على أساسٍ حزبي أو ديني أو عرقي بل على أساسِ حقِ المواطنةِ. فالمسلمُ والمسيحي والصابئي والإيزيدي كلهم سواء؛ خيارهم خيارهم في الإخلاصِ والعطاءِ في العملِ. حاولوا أن تفقهوا شعبكم أن إعداد طفل ناجح في المستقبلِ خير من البكاءِ في الدعاءِ أو الخطب. الفضيلة هي أن نبني مدرسةٍ لمحو الأمية خير من بناءِ ألفِ مسجدٍ. الفضيلةُ هي أن نؤمنَ أن إشراك المرأةِ في عمليةِ التنميةِ والبناءِ أمر لا بد منه. الفضيلةُ هي أننا كيف نخطط سوية للتخلصِ من هيمنةِ الرجلِ الأوحدِ ودكتاتورية شيخ العشيرةِ وتسلطِ رئيسِ الحزبِ. النجاحُ كلّ النجاحِ هو إيماننا بأن كرسي المسؤولية لم يجعلْ لخدمةِ المتنفذينَ والمتسلطينَ بل جعل لخدمةِ الجميعِ؛ سيد القومِ وخادمهم وأنه كرسي لا يستحقه إلا الحفيظ العليم. علينا أن نعي وندركَ تمامًا أن المسؤولية أمانة إنسانية وأن صيانتها شرف مقدس. الدولةُ لا تبنى على قدراتِ رجلٍ واحدٍ فزمنِ الاسكندر المقدوني قد ولى اِئْتُوا بشعبٍ يؤمنُ بأن محاربةِ الفسادِ والمفسدينَ ونبذهم واحتقارهم هو الجهادُ الأعظمُ أضمن لكم العظمة والنجاح.