إنهم في حضرةِ من يحبّونَ لا يمنعهم خوفٌ ولا مرضٌ، لا يمنعهم إجرامٌ أو إرهابٌ.. زادُوا عليهم القتلَ والرعبَ والدماءَ فزادُوا إصرارًا وعزيمةً نحو كربلاء.. واستمرّوا على المسيرِ مشيًا نحو حبيبهم.. من أين يأتونَ بكلِّ هذه الطاقاتِ لتحمل كل عناء المشي وغيره؟! إنه الحبُّ فحسب. لقد أيقَنوا جيدًا أنَّ نُظَراءهم في عبارةِ النفي والاثباتِ من المئذنةِ الأخرى في نفسِ الوطنِ لا يريدونَ لهم شَرًا وإن اِختَلَفوا معهم، فلقد ذاقوا من الشرِّ نفسه تاركينَ بيوتهم وأموالهم حينما نازحوا عن كل ذي عيبٍ ونقيصةٍ، حينما نازحوا إلى كل ذي مكرمـةٍ وشهامـةٍ، حينما تآمر عليهم العقالُ والعمامةُ فآواهُمُ الشرفُ الجنوبي والمروءةُ الجنوبية في المآذنِ الحسينية. هم بسطاءٌ قليلو المالِ؛ لكنهم ينثرونَ الدروبَ والطرقاتِ بأجودِ الطعام وأكثره، ليأكل منه الجياعُ والعراةُ، ويأكل منه المتذوقُ لطعامهم حتى وإن لم يكن مؤمنًا بشعائرِهم؛ مع علمهم بعدمِ إيمانه بشعائرِهم لكنهم يطعمونه عن طيبِ خاطرٍ ونفوسهم فرحة مسرورة.. كنا نسمعُ عن قصصِ المجنون وكيف أنه أمسكَ الجمر غيرةً على ليلاه أو كيف أنه مدّ يده في النار حبًا وسكرةً بالنظرِ إلى وجهِها أو كيف أنه جزّ يده دون وعي منه وهي ماسكة له اللحم. كنا نعجب من تلك القصص ونظنها ضربًا من ضروب الخيال حتى شكّ طه حسين عميد الأدب العربي وغيره بقصص المجنون لكن ما تراه عند محبي الحُسَين ومواليه يجعلكَ تزيلُ كلَّ العجبِ وكلَّ الشكوكِ والإبهامِ عن قصصِ المحبينَ وغرائبهم ففي كربلاء تتعطلُ كلُّ اللغاتِ وتتوقفُ كلُّ الأبجدياتِ لتجديد عهد المحبةِ والولاءِ.. إنّهم زوار الحسين إنهم اختصارُ الحبّ والعطاء والطيب والنقاء..