September 20, 2012, 7:27 pm
إعتاد الانسان على مر العصور بإنطباع سائد يعكس واجهة البلدان والدول والازمنة والحقب فالأجرد ادراك الاشياء بمنظار مجرد وقياس الامور بمقاييس تدفعه الى تميز الجميل من القبيح وهذا يدل على مدى الوعي الجمالي لديه والخبرات المكتسبة من إطلاعاته ومدركاته الحسية ومدى تطورها لدى الذائقة الشخصية.. و(الذائقة الشخصية) او ما يسمى بالوعي الذوقي ، يعكس المدرك الحسي للمجتمع الذي ينتمي اليه ولو ان التباين بين هذا وذاك كبير ولكن الذائقة السائدة تدفعه الى شخصية مميزة نتيجة (نظرية الطبيعة والتطبع) .. فليس بالمقدور ان يشذ كل الشذوذ عن بيئته المحيطة فإن شاء ام ابىّ لابد وان تظهر سمات خاصة بما يحيط به، وعليه فإن الشخص من المغرب العربي ليس كما هو الشرق اوسطي وليس كما الامريكي بمعنى اخر ان لكل انسان طينة مخلوق منها وله جذور عميقة موغلة بالقدم والثقافة الموروثة ، كما دعى بها الفيلسوف السويسري (كارل چوستاف يونج) بنظرية اللاشعور الجمعي .. فقال انك ليس فقط ترث من اجدادك لون الشعر والعينين وانما ترث الثقافة والحضارة .. ونحن العراقيين الاجدر بنا ان نحقق هذه النظرية على ارض الواقع فلدينا من التأريخ الثر والحضارة والقيم والخبرة ما يضعنا على رأس القائمة فنتصدر كل الدول بالمعاير الجمالية التي اورثها لنا اجدادنا من قبل فالشواخص واضحة وجلية على وعي السومريين والاشوريين واور واكد والنمرود ومسلة حمورابي فالمجال لا يتسع لذكرها بالمجمل .
فالأجدر بنا تحقيق الحد الادنى من الوعي والثقافة وترجمتها بالمنجز الحي، وأعتقد أن الفكر والأدب هما أرقى منابع الذوق العام, وفي عالمنا العربي لا يزلان هما المحور والمرتكز الأساس لمعالجة قضايانا المصيرية, ومتى ما كان الفكر والأدب أساس لمعالجة الداء ... فهو دليل على سلامة الذوق العام .
فمن المؤسف هذا التدني في مستوى الذوق العام ويبقى رأي ليس الزاميا ولا حكماً عام على المجتمع ككل لأن هذا الذوق يحتاج إلى تفكيك الذهنية العراقية , وهذه عملية شاقة, لأن تلك الذهنية قد تكون بنيت على قواعد غارقة في ثقافة الجهل والعناد وهذا ما يزيد الأمر تعقيداً. فالذوق العام في كل مجتمع يشكل ثقافة البيئة ومستواها النضوجي أو التخلفي, فاليوم مجتمعنا مرهون تماماً بعقيلة استهلاكية بحتة فقد سبقنا الغرب بالكثير من الاشواط .. فكثيرا ما نسمع عن بعض مقارنات التطور الحاصل والحفاظ على البيئة من التلوث بأشكاله من تلوث بيئي وبصري وسمعي فالوعي هناك ليس كالوعي في بلداننا فتجد نفسك عندما تسير في احد طرقاتهم بان سلوكك يختلف عما كنت معتاد عليه فمستوى الذوق العام لدى المجتمعات تؤثر على سلوكيات وجودة الانتاج لدى الفرد وتؤثر على الحالة النفسية والشعور بالانتماء والاستعداد للعمل الجماعي والحرص على مقدرات ذلك المجتمع .. فالملاحظ للذوق العام في المجتمع العراقي يمكنه أن يخرج بعدة انطباعات سريعة تلفت انتباه الرائي دون أدني جهد ودون حاجة إلي إعمال عقل، منها أن الذوق العام تحول إلي ذوق خاص وأن (لوحة الفسيفساء) أصبحت أقرب إلى الثقوب والتشوهات المتراصة منها إلي العمل الفني المتكامل.. فلكل منا قانونه الخاص الذي يحكمه فلا توجد قواعد ذوقية أو قوانين جمالية عامة تحكم الذوق العام، فيوجد ما يمكن تسميته بحالة (الأنوميا الذوقية) والأنوميا هي الحالة التي وصف (إيميل دوركايم) بها المجتمع عندما لا توجد قواعد مشتركة تحكم الأفراد وعندما لا توجد مرجعية واحدة للجماعة يمكن الاحتكام إليها فكل واحد ومزاجه لذلك فالبنية على سبيل المثال لا الحصر لا يوجد ما يجمع بينها سواء في الألوان أو في الشكل المعماري أو في الشخصية الفنية للبلد .. وما يلفت النظر أيضا أن هناك سخطاً عاماً بدون ترجمة إلي فعل فالكل يشكو من انهيار الذوق العام والكل يترحم علي أيام الذوق الجميل وأيام الفن الجميل وأيام الأسلوب الجميل دون أن يبدأ كل منا بنفسه ودون أن يعدل كل منا أسلوبه ودون أن يترجم شكواه إلي عمل إيجابي ضد القبح وضد الإهمال، فمن غير المعقول ان ترى المواقع الاثرية مهملة ومثيرة للألم والشفقة فالإهمال واضح رأي العين. وترى الجسور واختيار الالوان الغير مناسبة لها وبيئتها الحضارية والبيئية واختيار الوان واشكال الدورات وتصاميم النافورات الغريبة عن بيئتنا وموروثنا الحضاري والتاريخي فبعض الاحيان نحن نريد ان نعطي جمالية لتلك النقطة او تلك نجد انفسنا اننا نسئ اليها. فرفقاً بنا.
هذا فضلاُ عن لغة الشارع السائدة بين المجتمع فقد اصبح المتتبع لطريقة الكلام واسلوب الإشارات في الحديث يجد أنها في مأزق حقيقي، أصبح الحديث الذي يحتوي علي ألفاظ سوقية وعبارات بذيئة هو دلالة على أن المتحدث يتأتى من مرجعيات قروية فالملاحظ ايضا في جامعة الموصل كمثال على ذلك لاحظوا أن الطلاب الذين ينتمون إلي أسر راقية ومستوى اقتصادي مرتفع أصبحوا يرددون العبارات السوقية وأصبحت المصطلحات المتدنية هي المسيطرة علي أحاديث بعضهم رغبة من هؤلاء الطلاب في إثبات انهم مثقفون ثقافة السوق وانهم لايغلبون اما المد القروي الذي يجتاح المدينة.
والحل لهذه المشكلة يبداء من اللبنة الاساسية لبناء الانسان العراقي .. وهنا تبدأ مسؤولية المدرسة.
فتعتبر المدرسة خط الدفاع الأول تجاه أي تهديد يستهدف المجتمع ويشكل خطراً عليه، ولا شك أن الفضائيات ووسائل الاتصالات أسهمت في خلق واقع جديد جعل مهمة المدرسة أكثر صعوبة.
والحفاظ على الذوق العام من الإفساد ومن التأثر بالأذواق العامة للأمم الأخرى من المهام التي يجب على المدرسة أن تحافظ عليها رغم أن الكثير قد يرى في هذا إثقالاً لكاهل المدرسة بمزيد من المهام، ما يجعلها غير قادرة على القيام بكل هذه المهام.. لكن المسلم به أن المجتمعات استحدثت المدرسة كمؤسسة اجتماعية لتحقيق غايات المحافظة على ثوابتها وقيمها. ويأتي الذوق العام واحداً من أهم قيم المجتمع التي يجب على المدرسة أن تقوم بدور فاعل تجاه الحفاظ عليه من الذوبان والاندماج في أذواق أخرى قد تختلف من حيث منطلقاتها وتوجهاتها، ومن أهم ما يجب على المدرسة الاعتناء به من أجل تحقيق غاية الحفاظ على (الذوق العام للمجتمع) الاهتمام بالتربية الفنية ، حيث يعتبر هذا الفن من الفنون الجميلة التي لها تأثيرها الكبير في النفوس، وأمام هذا التأثير الكبير له فقد استُخدم في تقديم مضامين وتوجيهات تربوية لمختلف الشرائح، لكن يبدو فن الرسم والاشغال اليدوية والحرفية أعظم تأثيراً في نفوس الأطفال، مما يجعله ميداناً للتسلية عن النفوس وطرد الملل وجعل الرسوم مدعاة للتباهي بين الاطفال فالمنافسة البريئة تدفع بالأطفال الى تقديم كل ما هو جميل لديهم ، وبالتالي تشكيل الذائقة السليمة وهو - أي فن الرسم- من أكثر الفنون قدرة على التأثير في المتلقي، ويمكن وصفه بالفن الإسلامي المتزن الذي يحرر العواطف ويشجي النفوس ويحدث في النفوس التأثير، وهو من الموروثات الجميلة التي تلامس الوجدان وتوقظه وتحدث فيه أعظم الأثر، وقد فطن المربون إلى تأثيره فاتخذوا منه وسيلة تربوية ناجحة للتوجيه. ومتى تم الاهتمام به وتوجيهه وجهة سليمة فإن له من التأثير ما يجعله يتجاوز غاية الحفاظ على الذوق العام من الإفساد إلى غايات أبعد، حيث أن الرسم والخط العربي كفن متى استخدم كوسيط تربوي أضعاف ما للوسائل التوجيهية الأخرى من تأثير.
والمسؤولية الثانية تقع على عاتق المؤسسات التوعوية امثال مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمة المختصة بالذائقة العامة مثل كلية الفنون الجميلة ومعهد الفنون وكليات التربية والآداب واقسام التربية النفسية والفلسفية والمجلات والصحف والمؤسسات الاعلامية هذا فضلاً عن الاتحادات والنقابات المعنية بالأمر، وعلى مؤسسات الدولة المهتمة بمفاصل الحياة العامة للمدينة مثل وزارة البلديات والاسكان والثقافة بل وحتى وزارة السياحة والاثار حيث تقع عليها مسؤولية نشر روح التوعية والدروات التطويرية الجادة لتحقيق الوعي العام والحث على ثقافة الانتماء للوطن وتجسيده على ارض الواقع .
فهي صرخة ودعوة الى كل من يهمه الامر الى الالتفات بجدية الى هذا الموضوع داعيا من الله جل في علاه ان نبني وطناً نفتخر به في الداخل والخارج.
الكاتب: حكم ناطق الكاتب
|